نظرات مهمة في علم أصول الفقه
للدكتور صالح محمد صالح النعيمي
مــــقـــدمـــــة
الحمد لله رب العالمين، الذي شرح صدر من شاء من عباده، ووفق من أراد باختياره هو الله الذي لا اله إلا هو يعز من يشاء، احمده على إفاضة حكمه، واشكره على سوابغ نعمه .
واصلي على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ومولانا محمد -صلوات ربي وسلامه عليـه - الذي أعلى العلم وأوضح الدلالة، وعلى اله الأطهار وصحبه الأخيار، أما بعد..
فإن من أفضل العبادات الاشتغال بمعرفة أحكام الدين وبيانها للمسلمين، وفقد اشتغل علماء هذه الأمة بتلك الأحكام حيث خطته أيدي علمائها الأماجد عبر القرون الغابرة .
وعلم أصول الفقه يتميز عن غيره من العلوم بشرف الاتصال بالاجتهاد الذي هو في منظور الأصوليين عنوان الثقة التشريعية لمجتهدي هذه الأمة، وأساس التفويض النبوي في استنباط الأحكام، وقد وعدنا الله تعالى بحفظ أصل الشريعة ،بقوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).
إن أهمية الموضوع تكمن في دراسة مناهج العلماء لكونها تقدم فائدة عامة، ومما يندرج تحت عموم هذه الدراسة هي قيمة المؤلفات التي يبحث فيها من الناحية العلمية، وكذلك توجب على الباحث الإلمام بالمنهجية التي سار عليها المؤلف في مصنفه ، وتبيين منهج هذا العالم من خلال النظر إليه من زاوية تمحيص وتقسيمات ذلك المنهج عن غيره والطريقة التي سار عليها في التصنيف أهو مستقل في منهجه أم اخذ عن العلماء الذين من قبله إذ العلم ليس حكرا على أحد لكونه ملك الجميع.
ومما لا شك فيه أن هذا الموضوع ترجع أهميته إلى أهمية علم أصول الفقه نفسه، فهذا العلم يرسم المنهج ويبين طريقة الاستنباط، ويعد هذا العلم كالآلة التي يستطيع المجتهد بواسطتها استنباط الأحكام من النصوص، أما بالنسبة لغيرهم فلا يمكن لهم الاستغناء عن قواعد هذا العلم التي منها (الخاص والعام والمطلق والمقيد وبيان المجمل والمبين والنص والظاهر والناسخ والمنسوخ والإجماع والقياس) وما إلى ذلك من المباحث الأصولية .
وكان منهجي في البحث، هو القيام بعرض الموضوع وتناولت تقسيم هذا البحث على مقدمة و ثلاثة مطالب،المطلب الأول: مناهج العلماء في بحث أصول الفقه ، والمطلب الثاني :عمل الفقيه وعمل الأصولي ، والمطلب الثالث : الأحكام الأصولية والفقهية .
وختاما قد أفرغت في جمعه طاقتي وجهدي، وبذلت فيه فكري وقصدي، ولم يكن في ظني أن أتعرض لذلك، لعلمي العاجز عن الخوض في تلك المسالك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
المطلب الأول
مناهج العلماء في بحث أصول الفقه .
نشأ علم أصول الفقه مع نشأة الفقه، وتأخر عنه في التدوين، لأن علماء السلف كانوا في غنىً عنه، فقد كانوا يدركون مراد الشارع من النصوص ويفهمون الأوامر والنواهي.
فالقرآن الكريم نزل بلغتهم وعندهم السنة النبوية، وسليقتهم سليمة، فيكون عندهم ذوق فقهي في تفهم الأحكام الشرعية، لكن لم يكن عندهم قانون مدون يرجعون إليه في ضبط موازين الاجتهاد.
وبعد أن امتد ظل الدولة الإسلامية، واتسعت رقعته، دخل في الإسلام كثير من الشعوب، واختلط العرب بغيرهم من الأمم الأعجمية، فأدى ذلك إلى ضعف اللسان العربي، ودخل في اللغة بعض الأساليب الغريبة عن السليقة والفطرة السليمة، التي اتصفت بها لغة علماء الصدر الأول.
علاوة إلى ذلك ظهور مدرسة الحديث في الحجاز، ومدرسة الرأي في العراق، ووقوع الخلاف بين منهج المدرستين في الاستنباط بحكم ظروف معينة تأثرت بها منهجية كل مدرسة في معالجة الأحداث والوقائع المستجدة.
فكان منهج علماء مدرسة الرأي الأخذ بما تدل عليه آيات القرآن الكريم، ثم الأخذ بالسنة بعد التشديد في قبولها والتأكد من صحتها وتمحيصها وتدقيقها، لشيوع الوضع في الحديث وقد أكثروا في منهجهم من الأخذ بالقياس والاستحسان والعرف.
أما منهج علماء الحديث فكان الأخذ بالكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والمصلحة ولم يكثروا من العمل بالرأي، نتيجة لذلك فقد ظهرت الحاجة الملحة إلى تدوين القواعد والقوانين التي تحكم الاجتهاد، ويرجع إليها عند الاختلاف، فوضع الإمام الشافعي رسالته المشهورة ودوّنَ مبادئ هذا العلم.
ونهج الإمام الشافعي في كتابة منهجاً نظرياً عقلياً، فلم يلتزم بمنهج أهل الحديث ولا بمنهج أهل الرأي، بل نظر في مناهج المجتهدين، فلاحظ أنها تحتاج إلى تقويم وتحقيق .
وبما أنه –رحمه الله– كان يتمتع بعقلية نادرة وملكة عالية في الاجتهاد، فقد
وضع القواعد والقوانين التي عدها مثالية يمكن لأصحاب جميع المناهج الرجوع إليها عند الاختلاف .
وبتأليف الإمام الشافعي كتاب الرسالة، فتح الطريق أمام العلماء للمزيد من الدراسة والبحث في تحرير القواعد الأصولية، فألف كثير من العلماء بعده في هذا العلم من مختلف المذاهب الإسلامية .
ويلاحظ إلى الموضوعات التي بحثها الأصوليون أنها تتفق في الغالب من حيث بحث الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، ومباحث الحكم الشرعي، وطرق الاستنباط، وتفسير النصوص، والاجتهاد وشروطه .
إلا أن الاختلاف حصل في كيفية تناول هذه الموضوعات من حيث المنهجية، فكان منهج العلماء في التأليف أولاً ينقسم على منهجين:–
أولها: منهج المتكلمين .
ثانيها: منهج الحنفية .
ثم ظهر بعد ذلك منهج ثالث جمع بينهما ، سمي (طريقة المتأخرين) ، كما ظهر بعد ذلك منهج خاص في مقاصد الشريعة، ألف فيه الإمام الشاطبي كتابه (الموافقات) .
منهج المتكلمين :– قام هذا المنهج على تقرير القواعد الأصولية وفق أساس نظري وطبيعة منطقية عقلية، استنادا إلى الأدلة النقلية والعقلية دون التأثر بفروع فقهية لمذهب معين، اقتداء بمنهج الإمام الشافعي في الرسالة، وقد ألف على هذه الطريقة علماء من مختلف المذاهب الإسلامية، واهتموا إلى جانب تحقيق القواعد الأصولية ببحث مسائل إضافية من علم الكلام والمنطق والفلسفة، كما اكثروا من الجدل والمناظرة ولم يعيروا اهتماما للفروع إلا على سبيل التمثيل.
منهج الحنفية:– يقوم منهج الحنفية على الاستقراء والنظر في الفروع الفقهية المروية عن أئمة المذهب، ووضع القواعد الأصولية التي تبين مسلك أولئك الأئمة في الاجتهاد، وعلى ضوء هذه القواعد والقوانين، يمكن للمجتهدين فيما بعد استنباط الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة التي لم ينص عليها الأئمة المتقدمون.
وقد عد علماء الحنفية هذه القواعد خاضعة للفروع الفقهية، لذلك جاءت بعض قواعدهم التي لا تدخل فيها بعض المسائل الفقهية مضاف إليها قيد أو شرط لتشمل القاعدة تلك المسائل .
والهدف من وراء ذلك كله الدفاع عن فقه الأئمة وأنهم كانوا قد لا حظوا هذه القواعد في استنباط الأحكام الشرعية .
وعلى هذا الأساس قال أبو الحسن الكرخي –رحمه الله–: (كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ، أو على أنه معارض بمثله ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل، فإن قامت على النسخ يحمل عليه، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه) .
وقد أكثر العلماء الذين ألفوا وفق هذا المنهج من الفروع الفقهية، لأنها في الحقيقة هي الأصول لتلك القواعد، وإن كانوا يذكرونها على جهة التفريع والبناء على القواعد الأصولية .
حتى صارت الكتب الأصولية الحنفية تشبه الكتب الفقهية، ومما يمتاز به هذا المنهج أنه أمسّ بالفقه وأليق بالفروع كما قرر ابن خلدون، لكثرة الأمثلة فيه والشواهد، وبناء المسائل على النكت الفقهية .
منهج المتأخرين:– اهتم علماء هذا المنهج بالجمع بين منهج الحنفية ومنهج المتكلمين، وذلك بتقدير القواعد الأصولية، مع الاهتمام بالفروع الفقهية، وقد بدأت هذه الطريقة في أواخر القرن السابع الهجري .
منهج الشاطبي في مقاصد الشريعة:– اهتم الإمام الشاطبي بمقاصد الشريعة وبيان أسرار التشريع، فأعطى هذه المقاصد شمولا كبيرا، حتى عدها أصل أصول الشريعة، وجعل من مراتبها الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، القطب الذي تدور حوله كل مقاصد الشريعة، وبذلك يعد المؤسس الحقيقي لمباحث مقاصد الشريعة، وإن نسبته إليها كنسبة الإمام الشافعي إلى أصول الفقه.